فصل: كتاب أسرار الطهارة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


كتاب أسرار الطهارة

وهو الكتاب الثالث من ربع العبادات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وألطافه وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة وصلى الله على النبي محمد المستغرق بنور الهدى أطراف العالم وأكنافه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة تنجينا بركاتها يوم المخافة وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة‏.‏

أما بعد‏.‏

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بني الدين على النظافة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مفتاح الصلاة الطهور ‏"‏ وقال الله تعالى ‏"‏ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ‏"‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الطهور نصف الإيمان ‏"‏ وقال الله تعالى ‏"‏ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ‏"‏ فتفطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الطهور نصف الإيمان ‏"‏ عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحوناً بالأخباث والأقذار هيهات هيهات‏!‏ والطهارة لها أربع مراتب المرتبة الأولى تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات المرتبة الثانية تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام المرتبة الثالثة تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة المرتبة الرابعة تطهير السر عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين والطهارة في كل رتبة نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحل معرفة الله تعالى بالحقيقة في السر ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه‏.‏

ولذلك قال الله عز وجل ‏"‏ قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ‏"‏ لأنهما لا يجتمعان في قلب ‏"‏ وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ‏"‏ وأما عمل القلب فالعناية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فتطهيره أحد الشطرين وهو الشرط الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني فهذه مقامات الإيمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب فصار يمعن فيها ويستقصى في مجاريها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظناً منه بحكم الوسوسة وتخيل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية وحتى إنهم ما كانوا يغسلون اليد من الدسومات والأطعمة بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم وعدوا الأشنان من البدع المحدثة ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ومن كان لا يجعل بينه وبين الأرض حاجزاً في مضجعه كان من أكابرهم وكانوا يقتصرون على الجارة في الاستنجاء‏.‏

وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة‏:‏ ‏"‏ كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصى ثم نفركها بالتراب ونكبر ‏"‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ما كنا نعرف الأشنان في عرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها ‏"‏ ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع‏:‏ المناخل والأشنان والموائد والشبع‏.‏

فكانت عنايتهم كلها بنظافة الباطن حتى قال بعضهم‏:‏ الصلاة في النعلين أفضل ‏"‏ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزع نعليه في صلاته بإخبار جبريل عليه السلام له أن بهما نجاسة وخلع الناس نعالهم قال صلى الله عليه وسلم لم خلعتم نعالكم ‏"‏ وقال النخعي في الذين يخلعون نعالهم ‏"‏ وددت لو أن محتاجاً جاء إليها فأخذها ‏"‏ منكراً لخلع النعال‏.‏

فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور بل كانوا يمشون في طين الشوارع حفاة ويجلسون عليها ويصلون في المساجد على الأرض ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو يداس بالدواب وتبول عليه ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل مع كثرة تمرغها في النجاسات ولم ينقل قط عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات فهكذا كان تساهلهم فيها‏.‏

وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فيقولون هو مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه‏!‏ ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافياً أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غير سجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقيوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته‏.‏

فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة والرعونة نظافة فانظر كيف صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً‏!‏ وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه‏.‏

فإن قلت‏:‏ أفتقول إن هذه العادات التي أحدثها الصوفية في هيئاتهم ونظافتهم من المحظورات أو المنكرات فأقول حاش لله أن أطلق القول فيه من غير تفصيل ولكني أقول إن هذا التنظيف والتكلف وإعداد الأواني والآلات واستعمال غلاف القدم والإزار المقنع به لدفع الغبار وغير ذلك من هذه الأسباب إن وقع النظر إلى ذاتها على سبيل التجرد فهي من المباحات وقد يقترن بها أحوال ونيات تلحقها تارة بالمعروفات وتارة بالمنكرات فأما كونها مباحة في نفسها فلا يخفى أن صاحبها متصرف بها في ماله وبدنه وثيابه فيفعل بها ما يريد إذا لم يكن فيه إضاعة وإسراف وأما مصيرها منكراً فبأن يجعل ذلك أصل الدين ويفسر به قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بني الدين على النظافة ‏"‏ حتى ينكر به على من يتساهل فيه الأولين أو يكون القصد به تزيين الظاهر للخلق وتحسين موقع نظرهم فإن ذلك هو الرياء المحظور فيصير منكراً بهذين الاعتبارين أما كونه معروفاً فبأن يكون القصد منه الخير دون التزين وأن لا ينكر على من ترك ذلك ولا يؤخر بسببه الصلاة عن أوائل الأوقات ولا يشتغل به عن عمل هو أفضل منه أو عن علم أو غيره فإذا لم يقترن به شيء من ذلك فهو مباح يمكن أن يجعل قربة بالنية ولكن لا يتيسر ذلك إلا للبطالين الذين لم يشتغلوا بصرف الأوقات فيه لاشتغلوا بنوم أو حديث فيما لا يعني فيصير شغلهم به أولى لأن

الاشتغال بالطهارات يجدد ذكر الله تعالى وذكر العبادات فلا بأس به إذا لم يخرج إلى منكر أو إسراف‏.‏

وأما أهل العلم والعمل فلا ينبغي أن يصرفوا من أوقاتهم إليه إلا قدر الحاجة فالزيادة عليه منكر في حقهم وتضييع العمر الذي هو أنفس الجواهر وأعزها في حق من قدر على الانتفاع به‏.‏

ولا يتعجب من ذلك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏

ولا ينبغي للبطال أن يترك النظافة وينكر على المتصوفة ويزعم أنه يتشبه بالصحابة إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ إلا لما هو أهم منه كما قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك قال‏:‏ إنذ إذن لفارغ‏.‏

فلهذا لا أرى للعالم ولا للمتعلم ولا للعامل أن يضيع وقته في غسل الثياب إحترازاً من أن يلبس الثياب المقصورة وتوهماً بالقصار تقصيراً في الغسل فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء المدبوغة ولم يعلم منهم من فرق بين المقصورة والمدبوغة في الطهارة والنجاسة بل كانوا يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة بل كانوا يتأملون في دقائق الرياء والظلم حتى قال سفيان الثوري لرفيق كان يمشي معه فنظر إلى باب دار مرفوع معمور‏:‏ لا تفعل ذلك فإن الناس لو لم ينظروا إليه لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف‏.‏

فالناظر إليه معين له على الإسراف‏.‏

فكانوا يعدون جمام الذهن لاستنابط مثل هذه الدقائق لا في احتمالات النجاسة‏.‏

فلو وجد العالم عامياً يتعاطى له غسل الثياب محتاطاً فهو أفضل فإنه بالإضافة إلى التساهل خير‏.‏

وذلك العامي ينتفع بتعاطيه إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل المباح في نفسه فيمتنع عليه المعاصي في تلك الحال‏.‏

والنفس إن لم تشغل بشيء شغلت صاحبها وإذا قصد به التقرب إلى العالم صار ذلك عنده من أفضل القربات‏.‏

فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظاً عليه وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من الجوانب كلها‏.‏

وليتفطن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على بعض فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها‏.‏

وإذا عرفت هذه المقدمة واستبنت أن الطهارة لها أربع مراتب‏.‏

فاعلم أنا في هذا الكتاب لسنا نتكلم إلا في المرتبة الرابعة وهي نظافة الظاهر لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصداً إلا للظواهر‏.‏

فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام‏:‏ طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد واستعمال النورة والختان وغيره‏.‏

القسم الأول في طهارة الخبث والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة الطرف الأول في المزال وهي النجاسة‏.‏

والأعيان ثلاثة‏:‏ جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات‏.‏

أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر والحيوانات طاهرة كلها إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما‏.‏

فإذا ماتت فكلها نجسة إلا خمسة‏:‏ الآدمي والسمك والجراد ودود التفاح - وفي معناه كل ما يستحل من الأطعمة - وكل ما ليس له نفس سائلة كالذباب والخنفساء وغيرهما فلا ينجس الماء بوقوع شيء منها فيه‏.‏

وأما أجزاء الحيوانات فقسمان أحدهما‏:‏ ما يقطع منه وحكمه حكم الميت‏.‏

والشعر لا ينجس بالجز والموت والعظم ينجس‏.‏

الثاني‏:‏ الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلاً ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط وما له مقر وهو مستحي فنجس إلا ما هو مادة الحيوان كالمني والبيض‏.‏

والقيح والدم والروث والبول نجس من الحيوانات كلها‏.‏

ولا يعفى عن شيء م هذه النجاسات قليلها وكثيرها إلا عن خمسة الأول‏:‏ أثر النجو بعد الاستجمار بالأحجار يعفى عنه ما لم يعد المخرج والثاني‏:‏ طين الشوارع وغبار الروث في الطريق يعفى عنه مع تيقن النجاسة بقدر ما يتعذر الاحتراز عنه وهو الذي لا ينسب المتلطلخ به إلى تفريط أو سقطة‏.‏

الثالث‏:‏ ما على أسفل الخف من نجاسة لا يخلو الطريق عنها فيعفى عنه بعد الدلك للحاجة‏:‏ الرابع‏:‏ دم البراغيث ما قل منه أو كثر إلا إذا جاوز حد العادة سواء كان في ثوبك أو في ثوب غيرك فلبسته‏.‏

الخامس‏:‏ دم البثرات وما ينفصل منها من قيح وصديد‏.‏

ودلك ابن عمر رضي الله عنه بثرة على وجهه فخرج منها الدم وصلى ولم يغتسل‏.‏

وفي معناه ما يترشح من لطخات الدماميل التي تدوم غالباً وكذلك أثر الفصد إلا ما يقع نادراً من خراج أو غيره فيلحق بدم الاستحاضة ولا يكون في معنى البثرات التي لا يخلو الإنسان عنها في أحواله‏.‏

ومسامحة الشرع في هذه النجاسات الخمس تعرفك أن أمر الطهارة على التساهل وما ابتدع فيها وسوسة لا أصل لها‏.‏

الطرف الثاني وهو إما جامد وإما مائع فحجر الاستنجاء وهو مطهر تطهير تخفيف بشرط أن يكون صلباً طاهراً منشفاً غير محترم وأما المائعات فلا تزال النجاسات بشيء منها إلا الماء ولا كل ماء بل الطاهر الذي لم يتفاحش تغيره بمخالطة ما يستغنى عنه‏.‏

ويخرج الماء عن الطهارة بأن يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه‏.‏

فإن لم يتغير وكان قريباً من مائتين وخمسين منا - وهو خمسمائة رطل برطل العراق - لم ينجس لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ‏"‏ وإن كان دونه صار نجساً عند الشافعي رضي الله عنه هذا في الماء الراكد‏.‏

وأما الماء الجاري إذا تغير بالنجاسة فالجرية المتغيرة نجسة دون ما فوقها وما تحتها لأن جريات الماء متفاصلات‏.‏

وكذا النجاسة الجارية إذا جرت بمجرى الماء فالنجس موقعها من الماء وما عن يمينها وشمالها إذا تقاصر عن قلتين‏.‏

وإن كان جري الماء أقوى من جري النجاسة فما فوق النجاسة طاهر وما سفل عنها فنجس وإن تباعد وكثر إلا إذا اجتمع في حوض قدر قلتين‏.‏

وإذا اجتمع قلتان من ماء نجس طهر ولا يعود نجساً بالتفريق‏.‏

هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه‏.‏

وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ومثار الوسواس اشترط القلتين‏.‏

ولأجله شق على الناس ذلك‏:‏ وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله‏.‏

ومما لا أشك فيه أن ذلك لو كان مشروطاً لكان أولى المواضع بتعسر الطهارة‏:‏ مكة والمدينة إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة‏.‏

ومن أول عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصر أصحابه لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات‏.‏

وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات‏.‏

وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية وهذا كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء وإلا فنجاسة النصرانية وإنائها غالبة تعلم بظن قريب فإذا عسر القيام بهذا المذهب‏.‏

وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار دليل أول‏.‏

وفعل عمر رضي الله عنه‏:‏ دليل ثان‏.‏

والدليل الثالث‏:‏ إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة وعدم تغطية الأواني منها‏:‏ بعد أن يرى أنها تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل الآبار والرابع‏:‏ أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إن تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورد عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع ان الورود لم يمنع مخالطة النجاسة وإن أحيل ذلك على الحاجة فالحاجة أيضاً ماسة إلى هذا فلا فرق بين طرح الماء في إجانة فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء وكل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني والخامس‏:‏ أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة ولا خلاف في مذهب الشافعي رضي الله عنه إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز التوضؤ به وإن كان قليلاً‏.‏

وأي فرق بين الجاري والراكد وليت شعري هل الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان ثم ما حد تلك القوة أتجري في المياه من الأواني على الأبدان وهي أيضاً جارية ثم البول أشد اختلاطاً بالماء الجاري من نجاسة جامدة ثابتة إذا قضى بأن ما يجري عليها وإن لم يتغير نجس أن يجتمع في مستنقع قلتان فأي فرق بين الجامد والمائع والماء واحد والاختلاط أشد من المجاورة والسادس‏:‏ أنه إذا وقع رطل من البول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يغترف منه طاهر ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل وليت شعري هل تعليل طهارته بعدم التغير أولى أو بقوة الماء بعد انقطاع الكثرة وزوالها مع تحقق بقاء أجزاء النجاسة فيها والسابع‏:‏ أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في تلك الحياض مع قلة الماء ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها‏.‏

فهذه الأمور مع الحاجة الشديدة تقوى في النفس أنهم كانوا ينظرون إلى عدم التغير معولين على قوله صلى الله عليه وسلم خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه وهذا فيه تحقيق وهو أن طبع كل مائع أن يقلب إلى صفة نفسه كل ما يقع فيه وكان مغلوباً من جهته فكما ترى الكلب يقع في المملحة فيستحيل ملحاً ويحكم بطهارته بصيرورته ملحاً وزوال صفة الكلبية عنه فكذلك الخل يقع في الماء وكذا اللبن يقع فيه وهو قليل فتبطل صفته ويتصور بصفة الماء وينطبع بطبعه إلا إذا كثر وغلب وتعرف غلبته بغلبة طعمه أو لونه أو ريحه فهذا المعيار‏.‏

وقد أشار الشرع إليه في الماء القوي على إزالة النجاسة وهو جدير بأن يعول عليه فيندفع به الحرج ويظهر به معنى كونه طهوراً إذ يغلب عليه فيطهره كما صار كذلك فيما بعد القلتين وفي الغسالة وفي الماء الجاري وفي إصغاء الإناء للهرة ولا تظن ذلك عفواً إذ لو كان كذلك لكان كأثر الاستنجاء ودم البراغيث حتى يصير الماء الملاقي له نجساً ولا ينجس بالغسالة ولا بولوغ السنور في الماء القليل‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يحمل خبثاً ‏"‏ فهو في نفسه مبهم فإنه يحمل إذا تغير‏.‏

فإن قيل‏.‏

أراد به إذا لم يتغير فيمكن أن يقال إنه أراد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتادة ثم هو تمسك بالمفهوم فيما إذا يبلغ قلتين وترك المفهوم بأقل من ألأدلة التي ذكرناها ممكن وقوله ‏"‏ لا يحمل خبثاً ‏"‏ ظاهره نفي الحمل أي يقلبه إلى صفة نفسه كما يقال للملحة لا تحمل كلباً ولا غيره أي ينقلب وذلك لأن الناس قد يستنجون في المياه القليلة وفي الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيراً مؤثراً أم لا فتبين أنه إذا كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسة المعتادة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يحمل خبثاً ‏"‏ ومهما كثرت حملها فهذا ينقلب عليك فإنها مهما كثرة حملها حكماً كما حملها حساً‏.‏

فلابد من التخصيص بالنجاسات المعتادة على المذهبين جميعاً‏.‏

وعلى الجملة فميلي في أمور النجاسات المعتادة إلى التساهل فهما من سيرة الأولين وحسماً لمادة الوسواس وبذلك أفتيت بالطهارة فيما وقع الخلاف فيه في مثل هذه المسائل‏.‏

الطرف الثالث في كيفية الإزالة والنجاسة إن كانت حكمية وهي التي لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها وإن كانت عينية فلابد من إزالة العين وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص‏.‏

أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة بعسر إزالتها فالدلك والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقيناً يصلي معه ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات‏.‏

القسم الثاني والتيمم ويتقدمها الاستنجاء فلنورد كيفيتها على الترتيب مع آدابها وسننها مبتدئين بسبب الوضوء وآداب قضاء الحاجة إن شاء الله تعالى‏.‏

باب آداب قضاء الحاجة ينبغي أن يبعد عن أعين الناظرين في الصحراء وأن يستتر بشيء إن وجده وأن لا يكشف عورته قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس وأن لا يستقبل الشمس والقمر وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها إلى إذا كن في بناء والعدول أيضاً عنها في البناء أحب وإن استتر في الصحراء براحلته جاز وكذلك بذيله وأن يتقي الجلوي في متحدث الناس وأن لا يبول في الماء الراكد ولا تحت الشجرة المثمرة ولا في الجحر وأن يتقي الموضع الصلب ومهاب الرياح في البول استنزاهاً من رشاشه وأن يتكىء في جلوسه على الرجل اليسرى وإن كان في بنيان يقدم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ولا يبول قائماً‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها ‏"‏ من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه ‏"‏ وقال عمر رضي الله عنه ‏"‏ رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً فقال‏:‏ يا عمر لا تبل قائماً ‏"‏ قال عمر‏:‏ فما بلت قائماً بعد وفيه رخصة إذ روى حذيفة رضي الله عنه ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام بال قائماً فأتيته بوضوء فتوضأ ومسح على خفيه ‏"‏ ولا يبول في المغتسل قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عامة الوسواس منه ‏"‏ وقال ابن المبارك‏:‏ قد وسع في البول في المغتس إذا جرى الماء عليه ذكره الترمذي وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ لا يبولن أحدكم في مستجمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه ‏"‏ وقال ابن المبارك‏:‏ إن كان الماء جارياً فلا باس به ولا يستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل بيت الماء حاسر الرأس‏.‏

وأن يقول عند الدخول ‏"‏ بسم الله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ‏"‏ وعند الخروج ‏"‏ الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني ‏"‏ ويكون ذلك خارجاً عن بيت الماء وأن يعد النبل قبل الجلوس وأن لا يستنجي بالماء في موضع الحاجة وأن يستبرىء من البول بالتنحنح والنثر - ثلاثاً - وإمرار اليد على أسفل القضيب ولا يكثر التفكير في الاستبراء فيتوسوس ويشق عليه الأمر وما يحس به من بلل فليقدر أنه بقية الماء‏.‏

فإن كان يؤذيه ذلك فليرش عليه الماء حتى يقوى في نفسه ذلك ولا يتسلط عليه الشيطان بالوسواس‏.‏

وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم فعله أعني رش الماء وقد كان أخفهم استبراء أفقههم فتدل الوسوسة فيه على قلة الفقه‏.‏

وفي حديث سلمان رضي الله

عنه ‏"‏ علمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة فأمرنا أن لا تستنجى بعظم ولا روث ونهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ‏"‏ وقال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه‏:‏ لا أحسبك تحسن الخراء قال‏:‏ بلى وأبيك إني لأحسنها وإني بها لحاذق أبعد الأثر وأعد المدر وأستقبل الشيح وأستدبر الريح وأقعي إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام - الشيح نبت طيب الرائحة بالبادية والإقعاء ههنا أن يستوفز على صدور قدميه والإجفال أن يرفع عجزه‏.‏

ومن الرخصة أن يبول الإنسان قريباً من صاحبه مستتراً عنه فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة حيائه ليبين للناس ذلك‏.‏

كيفية الاستنجاء ثم يستنجي لمقعدته بثلاثة أحجار فإن أنقى وإلا استعمل رابعاً فإن أنقى وإلا استعمل خامساً لأن الإنقاء واجب والإيتار مستحب‏.‏

قال عليه السلام ‏"‏ من استجمر فليوتر ‏"‏ ويأخذ الحجر بيساره ويضعه على مقدم المقعدة قبل موضع النجاسة ويمره بالمسح والإدارة إلى المؤخر ويأخذ الثاني ويضعه على المؤخر كذك ويمره إلى المقدمة ويأخذ الثالث فيديره حو المسربة إدارة فإن عسرت الإدارة ومسح من المقدمة إلى المؤخر أجزأه ثم يأخذ حجراً كبيراً بيمينه والقضيب بيساره ويمسح الحجر بقضيبه ويحرك اليسار فيمسح ثلاثاً في ثلاثة مواضع أوفى ثلاثة أحجار أو في ثلاثة مواضع من جدار إلى أن لا يرى الرطوبة في محل المسح فإن حصل ذلك بمرتين أتى بالثالثة ووجب ذلك إن أراد الاقتصار على الحجر وإن حصل بالرابعة استحب الخامسة للإيتار‏.‏

ثم ينتقل من ذلك الموضع إلى موضع آخر ويستنجي بالماء بأن يفيضه باليمنى على محل النجو ويدلك باليسرى حتى لا يبقى أثر يدركه الكف بحس اللمس ويدرك الاستقصاء فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس وليعلم أن كل ما لا يصل إليه الماء فهو باطن ولا يثبت حكم النجاسة للفضلات الباطنة ما لم تظهر وكل ما هو ظاهر وثبت له حكم النجاسة فحد ظهوره أن يصل الماء إليه فيزيله ولا معنى للوسواس‏.‏

ويقول عند الفراغ من الاستنجاء ‏"‏ اللهم طهر قلبي من النفاق وحصن فرجي من الفواحش ‏"‏ ويدلك يده بحائط أو بالأرض إزالة للرائحة إن بقيت‏.‏

والجمع بين الماء والحجر مستحب فقد روى ‏"‏ أنه لما نزل قوله تعالى ‏"‏ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء‏:‏ ما هذه الطهارة التي أثنى الله بها عليكم قالوا‏.‏

كنا نجمع بين الماء والحجر ‏"‏‏.‏

كيفية الوضوء إذا فرغ من الاستنجاء اشتغل بالوضوء فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم قط خارجاً من الغائط إلا توضأ ويبتدىء بالسواك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك ‏"‏ فينبغي أن ينوي عند السواك تطهير فمه لقراءة القرآن وذكر الله تعالى في الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ صلاة على أثر سؤالاً أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مالي أراكم تدخلون علي قلحاً استاكوا ‏"‏ أي صفر الأسنان وكان عليه الصلاة والسلام يستاك في الليلة مراراً ‏"‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ‏"‏ لم يزل صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه شيء ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب ‏"‏ وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه‏:‏ السواك يزيد في الحفظ ويذهب البلغم وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يروحون والسواك على آذانهم‏.‏

وكيفيته‏:‏ أن يستاك بخشب الأراك أو غيره من قضبان الأشجار مما يخشن ويزيل القلح ويستاك عرضاً وطولاً وإن اقتصر فعرضاً‏.‏

ويستحب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء وإن لم يصل عقيبه وعند تغير النكهة بالنوم أو طول الأزم أو كل ما تكره رائحته ثم عند الفراغ من السواك يجلس للوضوء مستقبل القبلة ويقول ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا وضوء لمن لم يسم الله تعالى ‏"‏ أي لا وضوء كامل‏.‏

ويقول عند ذلك ‏"‏ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك من الشؤم والهلكة ‏"‏ ثم ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة ويستديم النية إلى غسل الوجه فإن نسيها عند الوجه لم يجزه ثم يأخذ غرفة لفيه بيمينه فيتمضمض بها ثلاثاً ويغرغر بأن يرد الماء إلى الغلصمة إلا أن يكون صائماً فيرفق ويقول ‏"‏ اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك ‏"‏ ثم يأخذ غرفة لأنفه ويستنشق ثلاثاً ويصعد الماء بالنفس إلى خياشيمه ويستنثر ما فيها ويقول في الاستنشاق ‏"‏ اللهم أوجد لي رائحة الجنة وأنت عني راض ‏"‏ وفي الاستنثار ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار ‏"‏ لأن الاستنشاق إيصال الاستنثار إزالة ثم يغرف غرفة لوجهه فيغسله من مبدإ سطح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ومن الأذن إلى الأذن في العرض ولا يدخل في حد الوجه النزعتان اللتان على طرفي الجبينين فهما من الرأس ويوصل الماء إلى موضع التحذيف وهو ما يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو القدر الذي يقع في جانب الوجه مهما وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين ويوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة‏:‏ الحاجبان والشاربان والعذاران والأهداب‏:‏ لأنها خفيفة في الغالب‏.‏

والعذاران هما ما يوازيان الأذنين من مبدإ اللحية‏.‏

ويجب إيصال الماء إلى منابت اللحية الخفيفة أعني ما يقبل من الوجه وأما الكثيفة فلا وحكم العنفقة حكم اللحية في الكثافة والخفة ثم يفعل ذلك ثلاثاً ويفيض الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية ويدخل الأصابع في محاجر العينين وموضع الرمص ومجتمع الكحل وينقيهما‏.‏

فقد روي أنه عليه السلام فعل ذلك ويأمل عند ذلك خروج الخطايا من عينيه وكذلك عند كل عضو ويقول عنده ‏"‏ اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك ‏"‏ ويخلل اللحية الكثيفة عند غسل الوجه فإنه مستحب ثم يغسل يديه إلى مرفقيه ثلاثاً ويحرك الخاتم ويطيل الغرة ويرفع الماء إلى أعلى العضد فإنهم يحشرون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء كذلك ورد الخبر‏.‏

قال عليه السلام ‏"‏ من استطاع أن يطيل غرته فليفعل ‏"‏ وروي أن الحلية تبلغ مواضع الوضوء ويبدأ باليمنى ويقول ‏"‏ اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً ‏"‏ ويقول عند غسل الشمال ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري ‏"‏ ثم يستوعب رأسه بالمسح بأن يبل يديه ويلصق رءوس أصابع يديه اليمنى باليسرى ويضعهما على مقدمة الرأس ويمدهما إلى القفا ثم يردهما إلى المقدمة وهذه مسحة واحدة يفعل ذلك ثلاثاً ويقول ‏"‏ اللهم غثني برحمتك وأنزل علي من بركاتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ‏"‏ ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد بأن يدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه ويدير إبهاميه على ظاهر أذنيه ثم يضع الكف على الأذنين استظهاراً ويكرره ثلاثاً ويقول ‏"‏ اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم اسمعني منادي الجنة مع الأبرار ‏"‏ ثم يمسح رقبته بماء جديد لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مسح الرقبة أمان من الغل يوم القيامة ‏"‏ ويقول ‏"‏ اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال ‏"‏ ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثاً ويخلل باليد اليسرى من أسفل أصابع الرجل اليمنى ويبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى ويقول ‏"‏ اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام في النار ‏"‏ ويقول عند غسل اليسرى ‏"‏ أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين ‏"‏ ويرفع الماء إلى أنصاف الساقين‏.‏

فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال ‏"‏ أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي أستغفرك اللهم وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني عبداً صبوراً شكوراً واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك

بكرة وأصيلاً ‏"‏ يقال‏:‏ إن من قال هذا بعد الوضوء ختم على وضوئه بخاتم ورفع له تحت العرش فلم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة‏.‏

ويكره في الوضوء أمور‏:‏ منها أن يزيد على الثلاث فمن زاد فقد ظلم وأن يسرف في الماء ‏"‏ توضأ عليه السلام ثلاثاً وقال من زاد فقد ظلم وأساء ‏"‏ وقال ‏"‏ سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور ‏"‏ ويقال‏:‏ من وهن علم الرجل ولوعه بالماء في الطهور وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ يقال إن أول ما يبتدىء الوسواس من قبل الطهور وقال الحسن‏:‏ إن شيطاناً يضحك بالناس في الوضوء يقال له الولهان‏.‏

ويكره أن ينفض اليد فيرش الماء وأن يتكلم في أثناء الوضوء وأن يلطم وجهه بالماء لطماً‏.‏

وكره قوم التنشيف وقالوا‏:‏ الوضوء يوزن قاله سعيد بن المسيب والزهري لكن روى معاذ رضي الله عنه ‏"‏ أنه عليه السلام مسح وجهه بطرف ثوبه ‏"‏ وروت عائشة رضي الله عنها ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كانت له منشفة ‏"‏ ولكن طعن في هذه الرواية عن عائشة‏.‏

ويكره أن يتوضأ من إناء صفر وأن يتوضأ بالماء المشمس وذلك من جهة الطب‏.‏

وقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما كراهية إناء الصفر‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ أخرجت لشعبة ماء في إناء صفر فأبى أن يتوضأ منه‏.‏

ونقل كراهية ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما‏.‏

ومهما فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة فينبغي أن يخطر بباله أنه طهر ظاهره وهو موضع نظر الخلق أن يستحي من مناجاة الله تعالى من غير تطهير قلبه وهو موضع نظر الرب سبحانه‏.‏

وليحقق طهارة القلب بالتوبة‏.‏

والخلو عن الأخلاق المذمومة والتخلق بالأخلاق الحميدة أولى‏.‏

وأن من يقتصر على طهارة الظاهر كمن يدعو ملكاً إلى بيته فتركه مشحوناً بالقاذورات واشتغل بتحصيص ظاهر الباب البراني من الدار‏.‏

وما أجدر مثل هذا الرجل بالتعرض للمقت والبوار‏!‏ فضيلة الوضوء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ ولم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً ‏"‏ ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط - ثلاث مرات - ‏"‏ ‏"‏ وتوضأ صلى الله عليه وسلم مرة مرة وقال‏:‏ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وتوضأ مرتين مرتين وقال‏:‏ من توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال‏:‏ هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصاب الماء ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الوضوء على الوضوء نور على نور ‏"‏ وهذا كله حث على تجديد الوضوء وقال عليه السلام ‏"‏ إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفاره فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له ‏"‏ ويروى ‏"‏ إن الطاهر كالصائم ‏"‏ قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ‏"‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الوضوء الصالح يطرح عنك الشيطان‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ من استطاع أن لا يبيت إلا طاهراً ذاكراً مستغفراً فليفعل فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه‏.‏

كيفية الغسل

وهو أن يضع الإناء عن يمينه ثم يسمي الله تعالى ويغسل يديه ثلاثاً ثم يستنجي كما وصفت لك ويزيل ما على بدنه من نجاسة إن كانت ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كما وصفنا إلا غسل القدمين فإنه يؤخرهما فإن غسلهما ثم وضعهما على الأرض كان إضاعة للماء ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً ثم على شقه الأيمن ثلاثاً ثم على شقه الأيسر ثلاثاً ثم يدلك ما أقبل من بدنه ويخلل شعر الرأس واللحية ويوصل الماء إلى منابت ما كثف منه أو خف وليس على المرأة نقض للضفائر إلا إذا علمت أن الماء لا يصل إلى خلال الشعر ويتعهد معاطف البدن وليتق أن يمس ذكره في أثناء ذلك فإن فعل ذلك فليعد الوضوء وإن توضأ قبل الغسل فلا يعيده بعد الغسل‏.‏

فهذه سنن الوضوء والغسل ذكرنا منها ما لا بد لسالك طريق الآخرة من علمه وعمله وما عداه من المسائل التي يحتاج إليها في عوارض الأحوال فليرجع فيها إلى كتب الفقه‏.‏

والواجب من جملة ما ذكرناه في الغسل أمران‏.‏

النية واستيعاب البدن بالغسل‏.‏

وفروض الوضوء‏.‏

النية وغسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح ما ينطلق عليه الاسم من الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين والترتيب‏.‏

وأما الموالاة فليست بواجبة‏.‏

والغسل الواجب بأربعة‏:‏ بخروج المني والتقاء الختانين والحيض والنفاس وما عداه من الأغسال سنة كغسل العيدين والجمعة والأعياد والإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة ولدخول مكة وثلاثة أغسال أيام التشريق ولطواف الوداع - على قول - والكافر إذا أسلم غير جنب والمجنون إذا أفاق لومن غسل ميتاً فكل ذلك مستحب كيفية التيمم من تعذر عليه استعمال الماء - لفقده بعد الطلب أو بمانع له عن الوصول إليه من سبع أو حابس أو كان الماء الحاضر يحتاج إليه لعطشه أو لعطش رفيقه أو كان ملكاً لغيره ولم يبعه إلا بأكثر من ثم المثل أو كان به جراحة أو مرض وخاف من استعماله فساد العضو أو شدة الضنا - فينبغي أن يصبر حتى يدخل عليه وفت الفريضة ثم يقصد صعيداً طيباً عليه تراب طاهر خالص لين بحيث يثور منه غبار ويضرب عليه كفيه ضاماً بين أصابعه ويمسح بهما جميع وجهه مرة واحدة وينوي عند ذلك استباحة الصلاة ولا يكلف إيصال الغبار إلى ما تحت الشعور خفت أو كثفت ويجتهد أن يستوعب بشرة وجهه بالغبار - ويحصل ذلك بالضربة الواحدة فإن عرض الوجه لا يزيد على عرض الكفين - ويكفي في الاستيعاب غالب الظن ثم ينزع خاتمة ويضرب ضربة ثانية يفرج فيها بين أصابعه ثم يلصق ظهور يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى - بحيث لا يجاوز أطراف الأنامل من إحدى الجهتين عرض المسبحة من الأخرى - ثم يمر يده اليسرى من حيث وضعها على ظاهر ساعده الأيمن إلى المرفق ثم يقلب بطن كفه اليسرى على باطن ساعده الأيمن ويمرها إلى الكوع ويمر بطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى ثم يفعل باليسرى كذلك‏.‏

ثم يمسح كفيه ويخلل بين أصابعه وغرض هذا التكليف تحصيل الاستيعاب إلى المرفقين بضربة واحدة فإن عسر عليه ذلك فلا بأس بأن يستوعب بضربتين وزيادة‏.‏

وإذا صلى به الفرض فله أن ينتقل كيف شاء فإن جمع بين فريضتين فينبغي أن يعيد التيمم للثانية‏.‏

وهكذا القسم الثالث من النظافة التنظيف عن الفضلات الظاهرة وهي نوعان أوساخ وأجزاء النوع الأول الأوساخ والرطوبات المترشحة وهي ثمانية الأول‏:‏ ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه ‏"‏ وكان صلى الله عليه وسلم يدهن الشعر ويرجله غباً ويأمر به ‏"‏ ويقول عليه الصلاة والسلام‏:‏ ادهنوا غباً وقال عليه الصلاة والسلام من كان له شعرة فليكرمها أي ليصنها عن الأوساخ ‏"‏ ودخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال‏:‏ أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ثم قال‏:‏ يدخل أحدكم كأنه شيطان ‏"‏ الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر الصماخ فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام فإن كثرة ذلك ربما تضر بالسمع‏.‏

الثالث ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات المنعقدة الملتصقة بجوانبه ويزيلها بالاستنشاق والاستنثار‏.‏

الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان من القلح فيزيله السواك والمضمضة وقد ذكرناهما‏.‏

الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط‏.‏

وفي الخبر المشهور أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان لا يفارقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر ‏"‏ وهي سنة العرب وفي خبر غريب ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرح لحيته في اليوم مرتين ‏"‏ وكان صلى الله عليه وسلم كث اللحية وكذلك كان أبو بكر وكان عثمان طويل اللحية رقيقها وكان على عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه‏.‏

وفي حديث أغرب منه قالت عائشة رضي الله عنها ‏"‏ اجتمع قوم بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يستوي من

رأسه ولحيته فقلت أو تفعل ذلك يا رسول الله فقال‏:‏ نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه إذا خرج إليهم ‏"‏ والجاهل ربما يظن أن ذلك من حب التزين للناس قياساً على أخلاق غيره وتشبيهاً للملائكة بالحدادين وهيهات‏!‏ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره أعينهم فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم‏.‏

وهذا القصد واجب على كل عالم تصدي لدعوة الخلق إلى الله عز وجل وهو أن يراعي من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه‏.‏

والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود فالتزين على هذا القصد محبوب وترك الشعث في اللحية إظهاراً للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلاً بما هو أهم منه محبوب‏.‏

وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل‏.‏

والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتاً إلى الخلق وهو يلبس على نفسه وعلى غيره ويزعم أن قصده الخير فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ويزعمون أن قصدهم إرغام المبتدعة والمجادلين والتقرب إلى الله تعالى به‏.‏

وهذا أمر ينكشف يوم تبلى السرائر ويوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرجة فنعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر السادس وسخ لأنها كانت لا يحضرها المقراض في كل وقت فتجتمع فيها أوساخ فوقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوماً لكنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيف ما تحت الأظفار وجاء في الأثر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم استبطأ الوحي فلما هبط عليه جبريل عليه السلام قال له‏:‏ كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم وقلحاً لا تستاكون‏.‏

مر أمتك بذلك ‏"‏ والاف وسخ الظفر والتف وسخ الأذن وقوله عز وجل ‏"‏ فلا تقل لهما أف ‏"‏ تعبهما أي بما تحت الظفر من الوسخ وقيل لا تتأذ بهما كما تتأذى بما تحت الظفر الثامن الدرن الذي يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق وذلك يزيله الحمام ولا بأس بدخول الحمام دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات اشام وقال بعضهم‏:‏ نعم البيت بيت الحمام يطهر البدن ويذكر النار‏:‏ روي ذلك عن أبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما‏.‏

وقال بعضهم‏.‏

بئس البيت بيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء‏.‏

فهذا تعرض لآفته وذاك تعرض لفائدته ولابأس بطلب فائدته عند الاحتراز من آفته‏.‏

ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره‏.‏

أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة وفي إباحة مس ما ليس بسوءة لإزالة الوسخ احتمال ولكن الأقيس التحريم إذ ألحق من السوأتين في التحريم بالنظر فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة أعني الفخذين‏.‏

والواجبان في عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول ولا يسقط عنه وجوب الذكر إلا لخوف ضرب أو شتم أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه فليس عليه أن ينكر حراماً يرهق المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر‏.‏

فأما قوله أعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذا لا يكون عذراً بل لابد من الذكر فلا يخلو قلب عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التعبير بالمعاصي وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه فلا يجوز تركه ولمثل هذا صار الحزم ترك دخول الحمام في هذه الأوقات إذ لا تخلو عن عورات مكشوفة لاسيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة إذ الناس لا يعدونها عورة وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها ولهذا يستحب تخلية الحمام‏.‏

وقال بشر بن الحرث‏:‏ ما أعنف رجلاً لا يملك إلا درهماً دفعه ليخلي له الحمام‏.‏

ورؤي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط وقد عصب عينيه بعصابة وقال بعضهم‏:‏ لابأس بدخول الحمام ولكن بإزارين‏:‏ إزار للعورة وإزار للرأس يتقنع به ويحفظ عينيه وأما السنن فعشرة فالأول‏:‏ النية وهو أن لا يدخل لعاجل دنيا ولا عابثاً لأجل هوى بل يقصد به التنظف المحبوب تزيناً للصلاة ثم يعطي الحمامي الأجرة قبل الدخول فإن ما يستوفيه مجهول وكذا ما ينتظره الحمامي فتسليم الأجرة قبل الدخول دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه ثم يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ‏"‏ ثم يدخل وقت الخلوة أو يتكلف تخلية الحمام فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطين للعورات فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شائبة من قلة الحياء وهو مذكر للنظر في العورات ثم لا يخلو الإنسان في الحركات عن انكشاف العورات بانعطاف في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدري ولأجله عصب ابن عمر رضي الله عنهما عينيه ويغسل الجناحين عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه لاسيما الماء الحار فله مئونة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحرارة الحمام ويقدر نفسه محبوساً في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم فإنه أشبه بيت بجهنم‏:‏ النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك بل العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة فإن المرء ينظر بحسب همته‏.‏

فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك داراً معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها‏.‏

فكذلك سالك طرق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئاً إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكراً ونكيراً والزبانية وإن سمع صوتاً هائلاً تذكر نفخة الصور وإن رأى شيئاً حسناً تذكر نعيم الجنة وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل إذ لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا‏!‏ فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته‏.‏

ومن السنن‏:‏ أن لا يسم عند

الدخول وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت إن أجاب غيره وإن أحب قال ‏"‏ عافاك الله ‏"‏ ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول ‏"‏ عافاك الله ‏"‏ لابتداء الكلام‏.‏

ثم لا يكثر الكلام في الحمام ولا يقرأ القرآن إلا سراً ولا بأس بإظهار الاستعاذة من الشيطان ويكره دخول الحمام بين العشاءين وقريباً من الغروب فإن ذلك وقت انتشار الشياطين ولابأس أن يدلكه غيره فقد نقل ذلك عن يوسف بن أسباط أوصى بأن يغسله إنسان لم يكن من أصحابه وقال‏:‏ إنه دلكني في الحمام مرة فأردت أن أكافئه بما يفرح به وإنه ليفرح بذلك‏.‏

ويدل على جوازه ما روى بعض الصحابة ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً في بعض أسفاره فنام على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت‏:‏ ما هذا يا رسول الله فقال‏:‏ إن الناقة تقحمت بي ‏"‏ ثم مهما فرغ من الحمام شكر الله عز وجل على هذه النعمة‏.‏

فقد قيل الماء الحار في الشتاء من النعيم الذي يسأل عنه‏.‏

وقال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ الحمام من النعيم الذي أحدثوه‏.‏

هذا من جهة الشرع‏.‏

أما من جهة الطب فقد قيل‏:‏ الحمام بعد النورة أمان من الجذام‏.‏

وقيل النورة في كل شهر مرة تطفىء المرة الصفراء وتنقي اللون وتزيد في الجماع‏.‏

وقيل‏:‏ بولة في الحمام قائماً في الشتاء أنفع من شربة دواء‏.‏

وقيل‏:‏ نومة في الصيف بعد الحمام تعدل شربة دواء‏.‏

وغسل القدمين بماء بارد بعد الخروج من الحمام أمان من النقرس ويكره صب الماء البارد على الرأس عند الخروج وكذا شربه هذا حكم الرجال‏:‏ وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لايحل للرجل أن يدخل حليلته الحمام ‏"‏ وفي البيت مستحم والمشهور أنه حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر ‏"‏ وحرام على المرأة دخول الحمام إلا نفساء أو مريضة‏.‏

ودخلت عائشة رضي الله عنها حماماً من سقم بها‏.‏

فإن دخلت لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ ويكره للرجل أن يعطيها أجرة الحمام فيكون معيناً لها على المكروه‏.‏

النوع الثاني فيما يحدث في البدن من الأجزاء وهي ثمانية الأول شعر الرأس ولابأس بحلقه لمن أراد التنظيف ولابأس بتركه لمن يدهنه ويرجله إلا إذا تركه قزعاً أي قطعاً وهو دأب أهل الشطارة أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك شعاراً لهم فإنه إذا لم يكن شريفاً كان ذلك تلبيساً الثاني شعر الشارب وقد قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ‏"‏ قصوا الشارب ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ جزوا الشوارب ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ‏"‏ أي اجعلوها حفاف الشفة أي حولها وحفاف الشيء‏:‏ حوله‏.‏

ومنه ‏"‏ وترى الملائكة حافين من حول العرش ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ احفوا ‏"‏ يدل على ما دون ذلك‏.‏

وقال الله عز وجل ‏"‏ إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ‏"‏ أي يستقصى عليكم وأما الحلق فلم يرد‏.‏

والإحفاء القريب من الحلق نقل عن الصحابة‏:‏ نظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه فقال‏:‏ ذكرتني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال المغيرة بن شعبة ‏"‏ نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طال شاربي فقال‏:‏ تعال فقصه لي على سواك ‏"‏ ولابأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اعفوا اللحى ‏"‏ أي كثروها وفي الخبر ‏"‏ إن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم ‏"‏ وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة الثالث شعر الإبط ويستحب نتفه في كل أربعين يوماً مرة وذلك سهل على من تعود نتفه في الابتداء فأما من تعود الحلق فيكفيه الحلق إذ في النتف تعذيب وإيلام والمقصود النظافة وأن لا يجتمع الوسخ في خللها ويحصل ذلك بالحلق الرابع شعر العانة ويستحب إزالة ذلك إما بالحلق أو بالنورة ولا ينبغي أن تتأخر عن أربعين يوماً الخامس الأظفار وتقليمها مستحب لشناعة صورتها إذا طالت ولما يجتمع فيها من الوسخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا أبا هريرة أقلم أظفارك فإن الشيطان يقعد على ما طال منها ‏"‏ ولو كان تحت الظفر وسخ فلا يمنع ذلك صحة الوضوء لأنه لا يمنع وصول الماء ولأنه يتساهل فيه للحاجة لاسيما في أظفار الرجل وفي الأوساخ التي تجتمع على البراجم وظهور الأرجل والأيدي من العرب وأهل السواد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالقلم وينكر عليهم ما يرى تحت أظفارهم من الأوساخ ولم يأمرهم بإعادة الصلاة ولو أمر به لكان فيه فائدة أخرى وهو التغليظ والزجر عن ذلك‏.‏

ولم أر في الكتب خبراً مروياً في ترتيب قلم الأظفار ولكن سمعت ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمسبحته اليمنى وختم بإبهامه اليمنى وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام ‏"‏ ولما تأملت في هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة إذ مثل هذا المعنى لا ينكشف ابتداء إلا بنور النبوة وأما العالم ذو البصيرة فغايته أن يستنبطه من العقل بعد نقل الفعل إليه‏.‏

فالذي لاح لي فيه والعلم عند الله سبحانه أنه لابد من قلب أظفار اليد والرجل واليد أشرف من الرجل فيبدأ بها ثم اليمنى أشرف من اليسرى فيبدأ بها ثم على اليمنى خمسة أصابع والمسبحة أشرفها إذ هي المشيرة في كلمتي الشهادة من جملة الأصابع ثم بعدها ينبغي أن يبتدىء بما على يمينها إذ الشرع يستحب إدارة الطهور وغيره على اليمين وإن وضعت ظهر الكف على الأرض فالإبهام هو اليمين وإن وضعت بطن الكف فالوسطى هي اليمنى واليد إذا تركت بطبعها كان الكف مائلاً إلى جهة الأرض إذ جهة حركة اليمين إلى اليسار واستتمام الحركة إلى اليسار يجعل ظهر الكف عالياً فما يقتضيه الطبع أولى ثم إذا وضعت الكف على الكف صارت الأصابع في حكم حلقة دائرة فيقتضي ترتيب الدور الذهاب عن يمين المسبحة إلى أن يعود إلى المسبحة فتقع البداءة بخنصر اليسرى والختم بإبهامها ويبقى إبهام اليمنى فيختم به التقليم‏.‏

وإنما قدرت الكف موضوعة على الكف حتى تصير الأصابع كأشخاص في حلقة ليظهر ترتيبها‏.‏

وتقدير ذلك أولى من تقدير وضع

الكف على ظهر الكف أو وضع ظهر الكف على ظهر الكف فإن ذلك لا يقتضيه الطبع‏.‏

وأما أصابع الرجل فالأولى عندي - إن لم يثبت فيها نقل - أن يبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى كما في التخليل فإن المعاني التي ذكرها في اليد لا تتجه ههنا إذ لا مسبحة في الرجل‏.‏

وهذه الأصابع في حكم صف واحد ثابت على الأرض فيبدأ من جانب اليمنى فإن تقديرها حلقة بوضع الأخمص على الأخمص يأباه الطبع بخلاف اليدين‏.‏

وهذه الدقائق في الترتيب تنكشف بنور النبوة في لحظة واحدة وإنما يطول التعب علينا‏.‏

ثم لو سئلنا ابتداء عن الترتيب في ذلك ربما لم يخطر لنا‏.‏

وإذا ذكرنا فعله صلى الله عليه وسلم وترتيبه ربما تيسر نا مما عاينه صلى الله عليه وسلم بشهادة الحكم وتنبيهه على المعنى استنباط المعنى ولا تظنن أن أفعاله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته كانت خارجة عن وزن وقانون وترتيب بل جميع الأمور الاختيارية التي ذكرناها يتردد فيها الفاعل بين قسمين أو أقسام كان لا يقدم على واحد معين بالاتفاق بل بمعنى يقتضي الإقدام والتقديم فإن الاسترسال مهملاً - كما يتفق - سجية البهائم وضبط الحركات بموازين المعاني سجية أولياء الله تعالى‏.‏

وكلما كانت حركات الإنسان وخطراته إلى الضبط أقرب وعن الإهمال وتركه مدى أبعد‏:‏ كانت مرتبته إلى رتبة الأنبياء والأولياء أكثر وكان قربه من الله عز وجل أظهر إذ القريب من النبي صلى الله عليه وسلم هو القريب من الله عز وجل والقريب من الله لابد أن يكون قريباً فالقريب من القريب قريب بالإضافة إلى غيره فنعوذ بالله أن يكون زمام حركاتنا وسكناتنا في يد الشيطان بواسطة الهوى‏.‏

واعتبر في ضبط الحركات باكتحاله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فإنه يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً وفي اليسرى اثنتين ‏"‏ فيبدأ باليمنى لشرفها‏.‏

وتفاوته بين العينين لتكون الجملة وتراً فإن للوتر فضلاً عن الزوج فإن الله سبحانه وتر يحب الوتر فلا ينبغي أن يخلو فعل العبد من مناسبة لوصف من أوصاف الله تعالى‏.‏

ولذلك استحب الإيتار في الاستجمار‏.‏

وإنما لم يقتصر على الثلاث وهو وتر لأن اليسرى لا يخصها إلا واحدة والغالب أن الواحدة لا تستوعب أصول الأجفان بالكحل وإنما خصص اليمين بالثلاث لأن التفضيل لابد منه للإيتار واليمين أفضل فهي بالزيادة أحق‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم اقتصر على اثنين لليسرى وهي زوج فالجواب أن ذلك ضرورة إذ لو جعل لكل واحدة وتر لكان المجموع زوجاً إذ الوتر مع الوتر زوج ورعايته الإيتار في مجموع الفعل وهو في حكم الخصلة الواحدة أحب من رعايته في الآحاد‏.‏

ولذلك أيضاً وجه وهو أن يكتحل في كل واحدة ثلاثاً على قياس الوضوء وقد نقل ذلك في الصحيح وهو الأولى‏.‏

ولو ذهبت أستقصي دقائق ما راعاه صلى الله عليه وسلم في حركاته لطال الأمر فقس بما سمعته ما لم تسمعه‏.‏

واعلم أن العالم لا يكون وارثاً للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا اطلع على جميع معاني الشريعة حتى لا يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا درجة واحدة وهي درجة النبوة وهي الدرجة الفارقة بين الوارث والموروث إذ الموروث هو الذي حصل المال له واشتغل بتحصيله واقتدر عليه والوارث هو الذي لم يحصل ولم يقدر عليه ولكن انتقل إليه وتلقاه منه بعد حصوله له فأمثال هذه المعاني مع سهولة أمرها بالإضافة إلى الأغوار والأسرار لا يستقل بدركها ابتداء إلا الأنبياء ولا يستقل باستنباطها تلقياً بعد تنبيه الأنبياء عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام السادس والسابع زيادة السرة وقلفة الحشفة أما السرة فتقطع في أول الولادة وأما التطهير بالختان فعادة اليهود في اليوم السابع من الولادة ومخالفتهم بالتأخير إلى أن يثغر الولد أحب وأبعد عن الخطر قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء ‏"‏ وينبغي أن لا يبالغ في خفض المرأة قال صلى الله عليه وسلم لأم عطية وكانت تخفض ‏"‏ يا أم عطية أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج ‏"‏ أي أكثر لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها فانظر إلى جزالة لفظه صلى الله عليه وسلم في الكتابة وإلى إشراق نور النبوة من مصالح الآخرة التي هي أهم مقاصد النبوة إلى مصالح الدنيا حتى انكشف له وهو أمي من هذا الأمر النازل قدره ما لو وقعت الغفلة عنه خيف ضرره فسبحان من أرسله رحمة للعالمين ليجمع لهم بيمن بعثته مصالح الدنيا والدين صلى الله عليه وسلم الثامنة ما طال من اللحية وإنما أخرناها لنلحق بها ما في اللحية من السنن والبدع إذ هذا أقرب موضع يليق به ذكرها وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا تركها عافية أحب لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اعفوا اللحا ‏"‏ والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إليه فلابأس بالاحتراز عنه على هذه النية‏.‏

وقال النخعي عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته ويجعها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن ولذلك قيل كلما طالت اللحية تشمر العقل‏.‏

فصل

وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض خضابها بالسواد وتبيضها بالكبريت ونتفها ونتف الشيب منها والنقصان منها والزياد وتسريحها تصنعاً لأجل الرياء وتركها شعثة إظهاراً للزهد والنظر إلى سوادها عجباً بالشباب وإلى بياضها تكبراً بعلو السن وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبهاً بالصالحين‏.‏

أما الأول وهو الخضاب بالسواد فهو منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير شبابكم من تشبه بشيوخكم وشر شيوخكم من تشبه بشبابكم ‏"‏ والمراد بالتشبه بالشيوخ في الوقار لا في تبييض الشعر و ‏"‏ نهى عن الخضاب بالسواد وقال هو خضاب أهل النار ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ الخضاب بالسواد خضاب الكفار ‏"‏ وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر رضي الله عنه فرد نكاحه وأوجعه ضرباً وقال‏:‏ غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك ويقال أول من خضب بالسواد فرعون لعنه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحو رائحة الجنة ‏"‏ الثاني‏:‏ الخضاب بالصفرة والحمرة وهو جائز تلبيساً للشيب على الكفار وفي الغزو والجهاد فإن لم يكن على هذه النية بل للتشبه بأهل الدين فهو مذموم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الصفرة خضاب المسلمين والحمرة خضاب المؤمنين ‏"‏ وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة وخضب بعض العلماء بالسواد لأجل الغزو وذلك لابأس به إذا صحت النية ولم يكن فيه هوى وشهوة‏.‏

الثالث‏:‏ تبييضها بالكبريت استعجالاً لإظهار علو السن توصلاً إلى التوقير وقبول الشهادة والتصديق بالرواية عن الشيوخ وترفعاً عن الشباب وإظهاراً لكثرة العلم ظناً بأن كثرة الأيام تعطيه فضلاً وهيهات فلا يزيد كبر السن الجاهل إلا جهلاً فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها ومن كانت غريزته الحمق فطول المدة يؤكد حماقته وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب بالعلم‏.‏

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم ابن عباس وهو حديث السن على أكابر الصحابة ويسأله دونهم‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما آتى الله عز وجل عبداً علماً إلا شاباً والخير كله في الشباب ثم تلا قوله عز وجل ‏"‏ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ وآتيناه الحكم صبياً ‏"‏ وكان أنس رضي الله عنه يقول ‏"‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل له يا أبا حمزة فقد أسن فقال لم يشنه الله بالشيب فقيل أهو شين فقال كلكم يكرهه ‏"‏ ويقال إن يحيى بن أكثم ولي القضاء وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقال له رجل في مجلسه يريد أن يخجله بصغر سنه كم سن القاضي أيده الله فقال مثل سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة مكة وقضاءها فأفحمه وروي عن مالك رحمه الله أنه قال قرأت في بعض الكتب لا تغرنكم اللحى فإن التيس له لحية وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيت الرجل طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق ولو كان أمية ابن عبد شمس وقال أيوب السختياني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه‏.‏

وقال علي بن الحسين من سبق فيه العلم قبلك فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سناً منك وقيل لأبي عمرو بن العلاء أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير فقال إن كان الجهل يقبح به فالتعلم يحسن به وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي يا أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه فقال له أحمد لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلو ولا نزول الرابع نتف بياضها استنكافاً من الشيب ‏"‏ وقد نهى عليه السلام عن نتف الشيب وقال هو نور المؤمن ‏"‏ وهو في معنى الخضاب بالسواد وعلة الكراهية ما سبق والشيب نور الله تعالى والرغبة عنه رغبة عن النور الخامس نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس وذلك مكروه ومشوه للخلقة ونتف الفنيكين بدعة وهما جانبا العنفقة‏.‏

شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته وأما نتفها في أول النبات تشبهاً بالمرد فمن المنكرات الكبار فإن اللحية زينة الرجال فإن لله ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحى وهو من تمام الخلق وبها يتميز الرجال عن النساء وقيل في غريب التأويل اللحية هي المراد بقوله تعالى ‏"‏ يزيد في الخلق ما يشاء ‏"‏ قال أصحاب الأحنف بن قيس وددنا أن نشتري للأحنف لحية ولو بعشرين ألفاً وقال شريح القاضي وددت أن لي لحية لو بعشرة آلاف وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة ووقاية العرض فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية وقد قيل إن أهل الجنة مرد إلا هرون أخا موسى صلى الله عليهما وسلم فإن له لحية إلى سرته تخصيصاً له وتفضيلاً السادس تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقة للتزين للنساء والتصنع قال كعب‏:‏ يكون في آخر الزمان أقوام يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقبون نعالهم كالمناجل أولئك لا خلاق لهم السابع الزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغين وهو من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وينتهي إلى نصف الخد وذلك يباين هيئة أهل الصلاح‏.‏

الثامن تسريحها لأجل الناس قال بشر‏:‏ في اللحية شركان‏:‏ تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد‏.‏

التاسع والعاشر النظر في سوادها أو في بياضها بعين العجب وذلك مذموم في جميع أجزاء البدن بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة وقد حصل من ثلاثة أحاديث من سنن الجسد اثنتا عشرة خصلة خمس منها في الرأس وهي فرق شعر الرأس والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وثلاثة في اليد والرجل وهي القلم وغسل البراجم وتنظيف الرواجب وأربعة في الجسد هي نتف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك وإذا كان غرض هذا الكتاب التعرض للطهارة الظاهرة دون الباطنة فلنقتصر على هذا وليتحقق أن فضلات الباطن وأوساخه التي يجب التنظيف منها أكثر من أن تحصى وسيأتي تفصيلها في ربع المهلكات مع تعريف الطرق في إزالتها وتطهير القلب منها إن شاء الله عز وجل‏.‏

تم كتاب أسرار الطهارة بحمد الله تعالى وعونه‏.‏

ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصلاة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى‏.‏